مرافعة سياسية تعقيبا على المرافعة المدنية عن البدو الرحل
"قضايا التمثيل السياسي القبلي، والملكية الجماعية للارض،وتداخل العوامل الاقتصادية والسياسية والاثنية في دارفور"
يحيى صديق
هذه الكتابة هي مساهمة شخصية تهدف للمشاركة في النقاش الذي ابتدرته (فكرة للدراسات والتنمية) عن الازمة الحالية المندلعة في السودان. وتهدف بشكل رئيسي للمشاركة في التوصل الي تصور سياسي يخاطب الازمات في جوهرها سعيا لخلق ارضية مشتركة بين السودانيين عن كيفية الخروج من ازمة الحرب الحالية عبر استعراض الاشياء بوضوح وتسمية الاشياء بمسمياتها. وتأتي هذه المساهمة رداً وتعقيباً على مكتوب الاستاذ ابو بكر عمر دفع الله المنشور بتاريخ ١٠ يونيو ٢٠٢٣ بعنوان (مرافعة مدنية عن البدو الرحل).
في البدء، لا يمكننا أن نفهم الأزمة الحالية، بأدوات تفسير حرب دارفور، واضعين في الاعتبار أن هذه الأدوات قد فقدت قدرتها على تحليل الواقع منذ 2003. وتغير تعريف التحالفات والخصومات خلال هذه الفترة عشرات المرات، وخصوصًا أن الدعم السريع خرج من مصفوفة حل، شمل أطرافًا متصارعة وقتها، ولكنها تتحالف اليوم في حلف -تراه مجموعة كبيرة - وجودياً.
تأطير ما يجري اليوم في البدو الرحل فقط هو تبسيط كارثي ومعطوب، واستسهال في تفسير الأزمة. فالانفجار الحالي في دارفور بدأ في حاضرة غرب دارفور، الجنينة. والاقتتال أشده، كان في المدينة لا في البوادي والدمر. صراع غرب دارفور يتقاطع حقيقة -كما ذكر أبوبكر- مع قضايا الجفاف والمراعي، لكنه كذلك يتقاطع مع مشاريع سياسية متعددة تخص فاعلين سياسيين مختلفين ومتعددين.
منذ ٢٠١٩، ظللنا نحذر من أن قضية الحواكير كارثية، خصوصا في وضعها كملكية جماعية لا فردية. قضية الحواكير هي ميراث من نظام إقطاعي بدائي، يكفل لصاحب الحكر "زعيم القبيلة" امتياز تحصيل العشور والعوائد، وهو نظام لا يتماشى مع منظومة الدولة الحديثة ونظمها الضريبية والخدمية.
علينا أن نتذكر أن حكومة الاستعمار الثنائي الانجليزي-المصري في الخرطوم، ضمت دار مساليت الي السودان في سبتمبر ١٩١٩، باتفاق سياسي يضمن للمنطقة استقلالًا كبيرًا في قضايا التحصيل والتأمين، مقابل عوائد سنوية تدفعها السلطنة للخرطوم مقدارها 500 جنيه (يواقيم رزق مرقص، تطور نظام الادارة في السودان في عهد الحكم الثنائي الاول). وهو ما أدى الي تأخر دخول النظم الادارية الحديثة وتخلف المنطقة. وزاد الطين بلة أن الجنينة أصبحت بوابة المهاجرين من غرب أفريقيا للسودان بعد عقدين، وأصبحت أكبر مدينة بها نسبة مئوية من الأجانب والذين بلغوا ٥٨% من سكان المدينة بحلول اربعينات القرن الماضي (ايوب بلمون، سياسات الهجرة في السودان الانجليزي المصري).
في المقابل، جاءت نكبة القبائل العربية -بعد اجتياح الزبير رحمة لمناطقهم ١٨٨٦ - ١٨٧٠ م، لتضغط على نخبهم الذين نزحوا إلى سلطنة ودّاي(دار ابشي) لتغيير تحالفاتهم السياسية وبروز مناوشات أخذت طابع حروب وكالة. وتضغط القبائل التشادية المتمردة على ودّاي للتحالف مع الفور والمساليت. ادى ذلك الي خلق شريط احتقان جغرافي، زاد امتداده بعد هجرة عشرات الآلاف من دارفور للمشاريع المروية على النيل وشرق السودان.
ذات الاحتقان تكرر بعد هزيمة الشيخ سنين (الفكي سنين حسين قائد المهدية) في كبكابية في ١٩٠٣، وتشتت بقية جيوش المهدية ورجوعهم إلى قبائلهم مما زاد من شد الوتر الاثني بعد ١٩٠٦م (موسى المبارك، تاريخ دارفور السياسي(.
هذا التاريخ مهم لفهم التحالفات التي نشأت وغيّرتْ موازين القوة بعد الاستقلال.
فالبني هلبة تحالفوا ضمنيًّا مع الشقيرات وأولاد زيد وأولاد راشد وبقية بطون الرزيقات الأبالة، وشكلوا ما يشبه دائرة مصالح مشتركة بين الحدود. يقوم فيها أولاد راشد والشقيرات بدور قيادة عرب شرق تشاد، ويقوم أبالة الرزيقات/بني هلبة بدور قيادة عرب غرب السودان، وهو تقسيم كان لا بد منه لمواجهة وضع الفوضى الاستعمارية.
هذه التحالفات مرّت بفترات انحلال وتوسع، أخذت فيها طابعًا إثنيًّا في صراع السلطة، وفئويًّا في صراع الأرض.
تحالف الزغاوة مع عرب دارفور في حرب القبائل ضمنيا ضد الفور، وساندوا حلفاءهم المدعومين من ليبيا في دار مساليت. وفعل العرب ذات الأمر مع الزغاوة، حتى انهارت تحالفاتهم بسبب صراع السلطة في تشاد.
ما يجب فهمه أن الطابع الاثني موجود لأن المصلحة من وراء الهوية الاثنية موجودة. بمعنى أن استمرار التعامل مع الأرض كملكية جماعية افتراضيًّا وحِكر للأسرة الحاكمة للقبيلة في الواقع، يجعل تفسيرات الهوية الاثنية ذاتها اعتباطية وساذجة، تعتمد على القرابة والنسب، وعلى التحالفات الضمنية الآنية.
في الثمانينيات، تحول تدفق السلاح القادم طوال السبعينيات لحلفاء القذافي في دارفور (الزغاوة وعرب دارفور) إلى كارثة سياسية، دفعت بالرئيس التشادي وقتها (حسين هبري)، إلى تسليح المساليت من جهة لصد جيش البركان، وتسليح جيش الفور الفيدرالي لإضعاف البني هلبة من جهة أخرى. وهو تسليح ضخم بمعيار زمانه "أكثر من ستة آلاف قطعة سلاح لجيش الفور الفيدرالي" (كولينز، تاريخ السودان الحديث ،-كولينز وبور، حرب الثلاثين عاما الافريقية).
زاد على هذا التعقيد، دعم الرئيس السوداني السابق جعفر نميري لمجموعات "الزرقة" ضمنيًّا، بغرض إضعاف خصومه العرب المدعومين من القذافي. وهو ما دفع القذافي لدعم الصادق المهدي بعد ثورة أبريل ١٩٨٥م وتمويل برنامج توسيع التسليح القبلي في دارفور.
هذا التسليح المتزايد للطرفين خلق أزمتين:
- الأولى: توفر السلاح عند شباب أفقرهم جفاف اعوام ١٩٨٣ - ١٩٨٧ م، ولديهم غطاء صراع إثني يبرر له التكسب بالمغنم الحربي والنهب المسلح.
- والثانية: فشل الإدارة الأهلية في المحافظة على قدرتها في ضبط الصراعات داخل القبيلة وخارجها. وهو ما دفع القيادات القبلية لتبني خطاب جديد يوفر حواضن اجتماعية من خارج القبيلة تساعد في الصراع المسلح. وهو الامر الذي لا نزال نجده عن الطرفين المتقاتلين اليوم.
عليه، لا يمكن أن نتفق مع أن الأزمة تتعلق فقط بالبدو، فالطرف الآخر كذلك يعاني من تعقيدات سياسية كارثية، ومشاكل الأرض أدخلت مجموعات إثنية أخرى في سياق الصراع. وكما ان الفشل الاجتماعي البيّن لا يمكن تفسيره بانعدام التنمية فقط، بل أن مشروع التمدين من أساسه لم يقم في تلك الجغرافيا. وتستفيد نخب المساليت والفور وقبائل أخرى كثيرة -بما فيها عرب دارفور- من غياب التمدين، لتوسعة نفوذها واستثماره في صراعاتها داخل بيوتها الحاكمة وفيما بينها.
الأزمة في جملتها هي كلمة "الدار" هذه. أنا شخصيا أنتمي لبيت إدارة أهلية ، وأفهم سياقات هذه الأزمة باعتبارها أزمة سياسة داخلية. وباعتبارها موروث نظام اقطاعي يرى في الأرض ملكية امتياز، ويرى في القبيلة مِلكًا أسريًّا، يهب الأرض لمن يريد وينزعها ممن يريد.
وأفهم كذلك أن هذا الوضع خلق حالة من الإحيائية بين الخاسرين داخل القبيلة، يريدون نزع هذا الامتياز وتوزيعه بين"القبيلة" وطرد أي جماعة لا تتماشى معهم في المصلحة. والاحيائية تغذيها الملكية الجماعية، ويغذيها تاريخ بديل يأخذ شرعيته من صراع الكاسبين والخاسرين داخل القبيلة، بينما يوجه شره خارجها.
ملخص القول:
القبيلة في دارفور كيان سياسي/عشائري، ووجود القبيلة يعني وجود الصراع، وما لم تُنزع من القبيلة امتياز الملكية الجماعية لتتحول لملكية فردية يمكن استثمارها وتنميتها بعيدًا عن معادلات الصراع والإثنية في الأرض، ما لم يحدث ذلك، فإن الحرب القبلية ستستمر، والنظام السياسي سيفشل، لأنه سيتعامل مع الفاعلين السياسيين بمنطق الاستحواذ والاستنزاف، ولن يكون هناك خطاب مواطنة.
المرافعة المدنية يجب أن تكون أولاً عن الفشل السياسي لا عن البدو الرحل.