المساعدات الإنسانية والمسؤولية عن الحماية في السودان

أمجد فريد الطيب 

على هامش منتدى أنطاليا الدبلوماسي، الذي انعقد في الفترة من 1 إلى 3 مارس/آذار 2024، رشحت الأنباء عن لقاء جمع بين وزير الخارجية السوداني المكلف، السفير علي الصادق، مع نائب مدير برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، كارل سكاو.


وقد أعلنت وزارة الخارجية السودانية على أثر هذا اللقاء أن الصادق أبلغ سكاو رفض الحكومة السودانية طلب الصندوق نقل المساعدات الإنسانية عبر الحدود التشادية. وجاء قرار الحكومة السودانية على خلفية تأكيد تقارير دولية من بينها تقرير لجنة الخبراء الأممية الخاصة بدارفور والمكونة بحسب قرار مجلس الأمن 1591، استغلال دول تدعم ميليشيا "قوات الدعم السريع" لمطار أم جرس التشادي بالقرب من الحدود مع السودان لإمداد "الدعم السريع" بالعتاد والسلاح، وهو الأمر الذي ساهم في تأجيج الحرب التي اندلعت بين قوات الجيش السوداني و"الدعم السريع" منذ 15 أبريل/ نيسان 2023.

لم يستغرق الأمر وقتا طويلا قبل أن تتراجع الخارجية عن قرارها بمنع انسياب المساعدات الإنسانية عبر الحدود التشادية. ولكن القرار في حد ذاته صدر بشكل غير منطقي في مضمونه وغير متسق مع الواقع أصلا. فقوات الجيش والحكومة السودانية تفتقر إلى السيطرة بشكل كامل على الحدود السودانية التشادية. إذ تسيطر "قوات الدعم السريع" على أربع من الولايات الخمس التي تشكل إقليم دارفور المجاور لدولة تشاد، بينما يستمر الوضع في ولاية شمال دارفور ملتبسا حتى الآن وهي الولاية الأكبر في الإقليم من حيث المساحة ومن حيث عدد السكان، والأكبر أيضا من حيث عدد النازحين الذين لجأوا إليها هربا من الانتهاكات التي ترتكبها "قوات الدعم السريع" في مناطق سيطرتها على الولايات الأخرى، خصوصا بعد المجازر والانتهاكات التي ارتكبتها الميليشيا وقادت إلى أوضاع معيشية صعبة وانعدام كامل للأمان في مدن الجنينة– غرب دارفور، وزالنجي حاضرة ولاية وسط دارفور، ونيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور.

أما بالنسبة للفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، فتتقاسم قوات الجيش و"قوات الدعم السريع" الوجود في المدينة والولاية، ولكن يحفظ التوازن ويمنع الاصطدام بينها وجود القوات المشتركة للحركات الدارفورية الموقعة على اتفاق سلام جوبا في الولاية والتي احتفظت بحياد معلن في الحرب الحالية حتى الآن، رغم اختلاف المواقف السياسية فيما بينها، اقترابا وابتعادا من معسكري الجيش و"الدعم السريع".

بالإضافة إلى ذلك، فإن عرقلة مرور المساعدات الإنسانية بأي شكل كان تقصيرا مباشرا من حكومة الأمر الواقع في أداء واجباتها ومسؤولياتها، والتبرير باستخدام الحدود لتهريب السلاح ليس منطقيا. إذ إن تهريب السلاح وإمداد الميليشيا به تقوم به دول تعلن دعمها للميليشيا نهارا جهارا. ويحدث هذا الإمداد بشكل معلن وثقته تقارير الأمم المتحدة قبل التقارير الصحافية. ولا يحدث الإمداد بالسلاح عبر منظمات العمل الإنساني التي تنقل الغذاء والدواء والمعونات، عبر قوافل من المتاح للحكومة السودانية المطالبة بمراقبتها وضمان عدم وجود عتاد عسكري أو معدات لدعم الميليشيا. 
وفي بادرة إيجابية، أعلنت منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية المقيمة في السودان، السيدة كليمنتين نكويتا سلامي، يوم 5 مارس 2024، أن وزارة الخارجية السودانية أبلغتها موافقتها على تسهيل مرور المساعدات الإنسانية عبر معبر الطينة الحدودي على الحدود السودانية التشادية، ومن معبر الرنك الحدودي على الحدود مع جنوب السودان وتيسير مسارات نقلها إلى بقية أنحاء البلاد. وهو الأمر الذي أكدته وزارة الخارجية السودانية ببيان صادر عنها في اليوم التالي 6 مارس 2024، وأكدت فيه على السماح بعبور المساعدات عبر الحدود من دولة تشاد، وجمهورية جنوب السودان، وجمهورية مصر العربية، بالإضافة إلى السماح باستخدام مطارات الفاشر وكادوقلي والأبيض للمساعدات العابرة للحدود في حال تعثر وصول المساعدات عبر الطرق البرية. 
كانت تلك خطوة جيدة وتراجعا حميدا من الخارجية السودانية عن القرار السابق، وهو يضع الأمم المتحدة ووكالاتها الإنسانية أمام تحدي الارتفاع بأدائها إلى مستوى الحوجة وتفعيل المساعدة الإنسانية لتغطية احتياجات الوضع الإنساني كما يجب. وهو الأمر الذي يشير كثير من المراقبين إلى قصور الوكالات الأممية عنه خصوصا مع المماطلة الدولية في إعلان حالة المجاعة الحادة في السودان حيث تجاوزت الأرقام والنسب الحدود اللازمة لإعلانها منذ وقت طويل. وكذلك، ننظر إلى عجز التغطية لميزانية الاحتياجات الإنسانية الضرورية للسودان والتي تم تقديرها بحوالي 2.7 مليار دولار لعام 2024 والتي لم يتوفر منها غير أقل من أربعة في المئة ونحن على وشك إكمال إنهاء الربع الأول من العام، كدليل آخر على تراخي الجهود الإنسانية العالمية فيما يتعلق بالسودان. 
ولكن ما حدث يفتح الباب لنقاش قصور آخر من قبل المجتمع الدولي فيما يتعلق بما يحدث من معاناة إنسانية في السودان. فهذه المنظومات تحتاج إلى احترام مبدأ حق السيادة لتمارس أعمالها في ظل الظروف الطبيعية. ولكن حق السيادة ليس هو المبدأ الوحيد في القانون الدولي. هنالك أيضا مبدأ "المسؤولية عن الحماية" وهو مبدأ أساسي في القانون الدولي يهدف إلى منع الفظائع والمعاناة الإنسانية، خصوصا بعد فشل العالم في التصدي لما حدث في رواندا والحرب في يوغسلافيا تسعينات القرن الماضي.

حاز مبدأ "المسؤولية عن الحماية" على اعتراف عالمي خلال مؤتمر القمة العالمي للأمم المتحدة عام 2005، وتم اعتماده كأحد مبادئ عمل الشرعية الدولية. تبنى قادة العالم في تلك القمة إطار المسؤولية عن الحماية، وحددوا ركائز ثلاثا لإعماله، بالتشديد على الوقاية باعتبارها النهج الرئيس، وتشمل هذه الركائز:
الركيزة الأولى- مسؤولية الدولة: يقع على عاتق كل دولة واجب أساسي يتمثل في حماية مواطنيها من الفظائع والانتهاكات. ويشمل ذلك الوقاية ووقف التحريض واتخاذ الإجراءات اللازمة.
الركيزة الثانية- مسؤولية المجتمع الدولي: ينبغي على المجتمع الدولي أن يساعد الدول في الوفاء بالتزاماتها المتعلقة بالمسؤولية عن الحماية. ويشمل ذلك الجهود الدبلوماسية والمساعدات الإنسانية وبناء القدرات.
الركيزة الثالثة- العمل الدولي للدول الفاشلة: إذا كانت دولة ما "تفشل بشكل واضح" في حماية مواطنيها، فإن المجتمع الدولي يتحمل مسؤولية اتخاذ إجراءات جماعية، وجاء في النص حديث عن شرعية استخدام القوة لإنفاذها لحماية المدنيين إذا تطلب الأمر.
بطبيعة الحال فقد أثار مفهوم المسؤولية العالمية عن الحماية الكثير من النقاش حول حق السيادة الذي تستند عليه حكومات الدول في إدارة شؤونها الداخلية. فتقليديا، كانت السيادة تعني ضمنا تحرر الدولة من أي نوع من أنواع التدخل الخارجي. لكن مبدأ "المسؤولية عن الحماية" يتحدى هذه النظرة المطلقة، فهذه السيادة ليست مطلقة، ولكنها تأتي مع مسؤولية حماية المواطنين. وتعتمد السيادة على مسؤولية حكومة الدولة تجاه شعبها، فإذا لم يتم الوفاء بها، يكون العقد بين الحكومة ومواطنيها باطلا أو منقوصا على أفضل الأحوال، وبالتالي لا تكون السيادة مطلقة. ومن هذا التوازن ينشأ أصل مبدأ المسؤولية عن الحماية. كما أن إجراءات الإنفاذ واستخدام القوة لا تقتصر فقط على التدخل العسكري لإنهاء الحرب أو الانخراط في إرسال قوات لوقف عدائيات وفصل بين القوات (وهو أمر آخر يحتاجه الوضع في السودان)، ولكن يمكن أيضا استخدامها لضمان إيصال المساعدات الإنسانية وإنهاء هذه المعاناة المستمرة في السودان. 
تطور هذا المبدأ والركائز المنظمة له من عمل اللجنة الدولية للتدخل وسيادة الدولة والتي أنشأتها الأمم المتحدة في أعقاب السؤال الذي طرحه كوفي عنان، الأمين العام للأمم المتحدة حينها: (إذا كان التدخل الإنساني المناسب يشكل اعتداء غير مقبول على سيادة الدول، فكيف يمكن لنا أن نستجيب إلى ما حدث في رواندا أو سربرنيتسا، أو الانتهاكات الجسيمة والمنهجية لحقوق الإنسان التي تؤثر على كل مبدأ من مبادئ إنسانيتنا المشتركة؟). وقد تكونت هذه اللجنة وطورت مفهوم المسؤولية عن الحماية والذي تم اعتماده دوليا في القمة الأممية عام 2005. ولكن الأمم المتحدة التي كان يديرها كوفي عنان ومن سبقه من الذين شغلوا الأمانة العامة للأمم المتحدة، ليست هي نفسها الأمم المتحدة التي يديرها أنطونيو غوتيريش اليوم. فالأمم المتحدة في يومنا هذا، تفضل أن لا تفعل شيئا على الإطلاق، بدلا من أن تسعى للحفاظ على "مبادئ إنسانيتنا المشتركة" كما سماها كوفي عنان. 
إن ما يحدث في السودان حاليا، تطور في غضون أشهر من اندلاع هذه الحرب الأهلية اللعينة فيه منذ العام الماضي ليصبح الآن أكبر كارثة معاناة إنسانية معاصرة. حيث إن أكثر من 25 مليونا من المدنيين السودانيين هم الآن في حاجة ماسة إلى مساعدات إنسانية أساسية، ويشمل ذلك 14 مليون طفل يحتاجون إلى مساعدات منقذة للحياة، و18 مليونا من المدنيين السودانيين
يعيشون في حالة انعدام الأمن الغذائي الحادة، وحوالي 5 ملايين منهم في مرحلة الجوع الحرج، بينما يعاني 3.8 مليون طفل تحت سن الخامسة من سوء التغذية الحاد. وتشير الإحصائيات إلى أن 95 في المئة من المدنيين السودانيين داخل السودان لا يتناولون وجبة واحدة كافية يوميا، بينما وصل عدد حالات الإصابة بالكوليرا إلى 11 ألف حالة. ذلك غير أوضاع النازحين واللاجئين الذين تم تشريدهم قسرا من بيوتهم ومنازلهم والذين وصل تعدادهم إلى حوالي 10 ملايين مواطن حتى الآن. بينما شهدت مناطق من دارفور انتهاكات وقتلا على أساس الهوية، تم توثيقه في تقارير الأمم المتحدة نفسها، والتي قامت أيضا منذ الرابع من فبراير/شباط 2024، بإغلاق شبكات الاتصالات العاملة في السودان لتدخل البلاد إلى حالة انقطاع كامل لخدمات الاتصالات الهاتفية وخدمات الإنترنت، مما أدى إلى تفاقم التدهور في الوضع الإنساني وتعطيل جهود تنسيق الإغاثة بالكامل،
بشكل أوقف عمل أكثر من 300 مطبخ من المطابخ التكافلية في ولاية الخرطوم والتي كانت تتولى إطعام حوالي 3.5 مليون مواطن في العاصمة التي دمرتها الحرب. ناهيك عن بيانات صندوق الغذاء العالمي عن النهب المتكرر لمخازنها بواسطة "قوات الدعم السريع" وآخرها البيان الصادر بتاريخ 28 ديسمبر/كانون الأول 2023 الذي أفاد بأن "قوات الدعم السريع" قامت بنهب مخزون
المواد الغذائية من مخازنها في ولاية الجزيرة والتي كانت مخصصة لتوفير الدعم الغذائي لمليون ونصف المليون شخص من المدنيين السودانيين لمدة شهر كامل على الأقل، وقامت أيضا بنهب المعينات الغذائية اللازمة لعلاج سوء التغذية لمجموع 20 ألفا من الأطفال والنساء الحوامل والأمهات المرضعات.
إذا لم يشكل كل ذلك عجزا بينا وواضحا في مسؤولية الدولة عن حماية المدنيين في السودان، فلا أدرى ما هو العجز البين.

إن استجابة الأمم المتحدة والمجتمع الدولي لما يحدث في السودان، اتسمت حتى الآن بقصور واضح وعدم اهتمام بالإيفاء بمبادئ القانون الدولي التي تجعلها أيضا مسؤولة عن حماية المدنيين. وهذا التقاعس يزيد من هذه المعاناة ويطيل من أمدها. فالمجتمع الدولي يحتاج الآن إلى اتخاذ إجراءات حاسمة وفاعلة لما فيه مصلحة وأمان الشعب السوداني، بدلا من الاستمرار في تضييع الوقت في المجاملات الدبلوماسية للطرفين المتحاربين، وحلفائهما الإقليميين والدوليين